سنة ثانية حرب: استقطابات أكثر حدّةً
تبدو السنة الثانية للحرب سنة مبارزة بالأسلحة النوعية في أوكرانيا، وسنة التحدّي الأكبر حول مَن يحقّق النصر، رغم أن توقعات الخبراء، الغربيين قبل سواهم، لا تحسم. روسيا حقّقت معظم أهدافها العسكرية داخل الجغرافية الأوكرانية، وما تتطلّع إليه في «معركة الربيع» وما بعدها هو تثبيت مكاسبها والتأكّد من عدم خسارتها لاحقاً سواء بالقتال أو بالتسوية، ولذلك عرضت مجدداً العودة إلى «الحوار المباشر».
أما أوكرانيا فتراهن على استعادة ما فقدته وسط عشرات المدن والقطاعات المدمّرة كليّاً أو جزئيّاً، ولا ترى أي خيار آخر غير مواصلة القتال، بل تعتبر أي حديث عن التفاوض في المدى المنظور نوعاً من الهزيمة والاستسلام.
وفي هذا الجوّ الملبدّ بالاستقطابات ورصّ الصفوف في المعسكر الغربي، وجدت الصين أن الوقت حان لطرح أفكار يمكن أن تتحوّل إلى مبادرة أو مشروع حوار، إنْ لم يكن لإنهاء الحرب، فأقلّه لوضع خطوط حمر لاحتمالات التصعيد.
بعد مرور عام على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تتراءى الأرقام المفزعة للخسائر البشرية القريبة من مئتي ألف إنسان، وللعمران المدمّر الذي تنافس مَشاهدُه زلزالَ تركيا وسوريا، ولمرافق الكهرباء والنقل والثقافة والتجارة والزراعة.. والتي قدّر البنك الدولي خسائرَها بنحو 252 مليار دولار وتكاليف إعادة الإعمار بتريليون دولار، فيما تراوح خسائر الاقتصاد العالمي بين 1.6 و2.1 تريليون دولار بحسب أبحاثٍ لبعض المراكز الغربية.
وتعكس الأرقامُ ضخامةَ الموارد التي استُهلكت خلال المواجهات العسكرية في وقت قياسي، ولم يكن ليُخصَّص جزء يسير منها على مدى عقود للتنمية أو لمكافحة الفقر. هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع هذه السنة، وحتى مع افتراض أن الحرب ستضع أوزارَها، فإنها ستترك آثاراً على السنة التالية. فالخروج (المفترض) من الحرب والتعافي الاقتصادي سيتأثران بتكاليف إعادة الإعمار وسينتظر انتظام سلاسل الإمداد استقرارَ ترتيبات ما بعد الحرب، إذ أن الشكوى من نقص المواد ستستمر بعض الوقت.
سبق لأوروبا أن عانت من هذه التداعيات غداة الحرب العالمية الثانية، ولم تتخيّل أنها ستتكرّر. الحرب الحالية ليست عالمية، لكن أزمتها وتداعياتها باتت عالمية. وسط عجز الأمم المتحدة وقصر دورها على ما يتعلّق بالأمن الغذائي، وبعد إخفاق محاولات أوروبية لإطلاق مفاوضات، لا بدّ للمبادرة الصينية من الوقت والمساحة الكافيين كي تشقّ طريقها، رغم المواقف السلبية الأولى، الأميركية والغربية. إذ أن إحباط هذه المبادرة يسدّ آفاق السياسة للاعتماد فقط على ميادين القتال. قدمت بكين أفكارها باعتبارها نتيجة بحث عميق في أسباب الأزمة وتطوّراتها والحلول الممكنة، تاركةً الاتفاق على التفاصيل لحوار الجانبين، رغم أنها أخذت في الاعتبار أفكاراً «واقعية» سبق أن طُرحت في الغرب، وكان أكثرها شهرةً ما قدمه هنري كيسنجر في فترات مبكرة واستخلص فيه أن أي «تسوية» ستتطلّب نوعاً من إعادة التعريف لمبادئ أساسية مثل «السيادة» و«وحدة الأراضي».
لكن المبادرة الصينية ركّزت على أولويات مثل «وقف الأعمال العدائية واستئناف التفاوض للسلام»، وإجراءات لتأمين حلول للأزمة الإنسانية وحماية المدنيين والأسرى، فضلاً عن الحفاظ على أمان محطات الطاقة النووية.
قد يضيّع عدم الأخذ بالمبادرة الصينية فرصةً دولية لإنهاء الحرب، وبالتالي سيزيد من حدّة الاستقطابات كما أظهرت الاتهامات المتبادلة خلال المناقشات الأخيرة لمجلس الأمن، وبالأخص في اجتماعات وزراء «مجموعة العشرين» في الهند، إذ اختلفوا على مصطلحات «الغزو» و«الحرب» و«العملية العسكرية الخاصة» في تراجع عمّا توافقوا عليه في قمة بالي للمجموعة في نوفمبر الماضي. لا شك في أن الدول التي اعتمدت الحياد ستجد صعوبات للحفاظ عليه هذه السنة.
*كاتب ومحلل سياسي - لندن